زيارة القبور بالنسبة للنساء: هل هي جائزة أم محرمة؟
إن مما يزهد في الدنيا، ويذكر الموتَ والآخرةَ، ويداوي القلب القاسي، زيارةَ القبور، فقد أخرج مسلم من حديث بريدة "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس :" فإنها تذكركم الآخرة"، وللحاكم من حديثه فيه"وترق القلب، وتدمع العين، فلا تقولوا هُجرا"، وله من حديث ابن مسعود "فإنها تزهد في الدنيا"، ولمسلم عن أبي هريرة: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت"، والأظهر أن الترخيص في زيارة القبور عام للرجال والنساء؛ لأن كل أولئك محتاجون للتذكير، ويؤيد الجواز:
1- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بَوَّابين فقالت: لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)(1)، قال ابن حجر شارحا هذا الحديث: "واختلف في النساء، فقيل : دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة.ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة"(2).
2- ما رواه الحاكم عن "عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها"(3)، فهذه عائشة رضي الله عنها حملت الإذن في زيارة القبور على عمومه للرجال والنساء.
3- ما رواه مسلم من حديث عائشة أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم "فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت كيف أقول لهم؟ يا رسول الله قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"(4)، فقد أفرها صلى الله عليه وسلم على الزيارة، بل وعلمها ما تدعو به لأهل القبور.
وأما الأحاديث التي يوحي ظاهرها بمنع النساء من هذه الزيارة فمحمولة على النساء اللاتي يزرن المقابر مفاخرة ومباهاة، أو لأغراض غير التذكر والاتعاظ.ومن ثم ينبغي لزائرات المقابر الذهاب إليها غير متبرجات ولا متعطرات، وأن يستحضرن نية الاعتبار وتذكر الآخرة، ويتجنبن الصياح والنوح والتعديد على الأموات، ويتأدبن بآداب زيارة المقابر.قال القرطبي: "زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء مختلف فيه للنساء، أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك، وجائز لجميعهن ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال، ولا يختلف في هذا إن شاء الله، وعلى هذا المعنى يكون قوله: (زوروا القبور) عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء فلا يحل ولا يجوز، فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور، والله أعلم"(5).
ويجوز للسناء حضور صلاة الجنازة والصلاة عليها كالرجال، فـ"عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد"(6)، وفي رواية مسلم كذلك عن عائشة "أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد"(7).
ويحسن بهن عدم اتباع الجنازة لدفنها، لحديث أم عطية قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعْزَم علينا"(8). وظاهر النهي في الحديث للكراهة. قال الصنعاني: "وقولها: (ولم يعزم علينا) "ظاهر في أن النهي للكراهة لا للتحريم، كأنها فهمته من قرينة وإلا فأصله التحريم، وإلى أنه للكراهة ذهب جمهور أهل العلم، ويدل له ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال: دعها يا عمر) الحديث وأخرجه النسائي وابن ماجه، ومن طريق أخرى ورجالها ثقات"(9). وقال القاضي عياض شارحا حديث أم عطية: "اختلف العلماء في إباحة اتباع الجنائز، فجمهورهم على منعه لظاهر النهي في الحديث، واحتاره جماعة علماء المدينة، ومالك يجيزه ويكرهه للشابة وفي الأمر المستنكر، وقال ابن حبيب من أصحابنا بالقول الأول، وحجة من أجازه أنه لم يعزم عليهن في ذلك"(10).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري كتاب الجنائز باب زيارة القبور رقم1283
(2) فتح الباري 3/184.
(3) المستدرك 1/532.
(4) صحيح مسلم كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها
(5) الجامع لأحكام القرآن 20/116-117.
(6) صحيح مسلم كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد رقم 973.
(7) صحيح مسلم كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد رقم 973.
(8) صحيح مسلم كتاب الجنائز باب نهي النساء عن اتباع الجنائز رقم 938.
(9) سبل السلام 2/154.
(10) إكمال المعلم بفوائد مسلم 3/383.